شجرة الطّلح!!

شجرة الطّلح!!
وحيدة انتصبت هنالك , تقاوم بشوكها عبث صبية التفّوا حولها لاعبين , غير آبهين بوخز الشّوك ولا بلسع الدبابير التي جعلت منها نزلاً!!
ومع كل لسعة ووخزة كانت تتفجّر المتعة من جوانبنا جميعاً , نضحك كالمجانين
....نجري هرباً من دبّور مطارد , ثمّ نعيد الكرّة لمزيد من اللسع ...ومزيد
من الهروب!!
وإلى كل ذلك كانت تطاردنا شتائم العجوز ولعناته لمن أفسد أرضه , وقد تصحبها حجارة تنطلق صوبنا من (وضفه) المصنوعة من ألياف متينة!!
كانت متعة عظيمة,لا أعلم سببها,تخرج من بين لسع ووخز......وشتم....تزيد على كل المخاطر المصحوبة لجلبها من شجرة الطلح!!
وبجوارها,ليس بعيداً, تجمّعت صخور تدثّر نصفها بالسّواد , وارتدى الآخر حلّة بيضاء!!
وهناك كنّا نلعب, ممسكين بعصي صنعت على أشكال (مسدّسات) و(بنادق) , وبعد
انقسامنا فريقين يصوّب كلٌّ منّا (سلاحه) باتّجاه الآخر , ونطلق (النيران)
!!
وأثناء ذلك نجهد في الاختباء حتى لا تصيبنا (نيران) الآخرين!!
وإذا ما برز أحدنا فأصابه(عيار طائش) أقسم الآخر الأيمان المغلّظة أنّه قد (قتله) , وأنّ عليه الخروج من اللعبة!!
نمارس لعبة (القتل ) تلك بكل مرح , بأقدام حافية من كل شيء سوى تلك البهجة
المتفجّرة وروح الطّفولة البريئة!! ولا نلقي بالاً لتلك الخدوش هنا أو
هناك , نلعب ونصرخ كالمجانين
لحظة (الانتصار)!!
....أنظر إلى شجرة الطلح........ولا أفهم!!
تطوّرت الألعاب في قريتنا , بعد عرض مسلسل (بدوي) , أراد الفتيان تقليد حروبه التي نشبت بين القبيلتين بسبب(جواهر)!!
فنصبت الخيام وانقسمت القرية عصابتين عيّن لكل منهما أمير!!
وجيء بقطع حديديّة وطرقت حتى جعلت سيوفاً!!
وأتي بالتنكات الفارغة فدهست لتكون(دروعاً)!!
وجلبت فوارغ (الكاتيوشا) فنصبت متارس!!
وعيّنتُ حارساً لخيمة أحد (القادة) وما إن رآني عمّي حتّى نهرني وألزمني العودة إلى البيت, ليحرمني تجربة عسكريّة فريدة!!
أضرمت النيران عند الخيام , في المعسكرين, وقرعت طبول الحرب , ولم يعد الكثير يأوي إلى المنازل بل خيّموا هناك في ساحات القتال!!
واشتبك الفريقان في حرب ضروس , سمعنا من أخبارها العجب العجاب , فقد أسر
فريقنا فتى من فتيان(العدو) وحفروا له حفرة دفنوه فيها حتى رأسه الذي
أبقوا عليه بارزا
ً ليتنفّس هواء المعارك!!
ولولا رجل مرّ وأنقذه لكان الصبي شهيد معركة (جواهر)!!
وأسر العدو فتى من فتياننا وقيّدوه إلى عمود وجلدوه حتّى رأى النجوم تتراقص في عينيه!!
وحطّمت نوافذ عدّة , وزارت الحجارة أجهزة تلفاز كثيرةفجعلتها هشيماً!!
أمّا الرؤوس المشجوجة والأيدي المجروحة فقد مني بها الفريقان بكرم باذخ!!
وما زلت....أنظر إلى شجرة الطلح......وأعجب!!!
وفي أوساط(الجربة) كنّا نعهد إلى كتل الطّين فنتقاذف بها , يمتعنا منظر الطين المتناثر عند ارتطامه بالرؤوس!!
غير أنّ بعض الخبثاء كان يختار كتلة تحوي حجراً , فيقذف بها صاحبه ,
ويرحّب بها المسكين باسماً , حتى إذا شعر بالدّم يفر من رأسه شرع في
العويل , وذاك الخبيث يقهقه ضحكاً!!
أرى تلك الأيّام .....بمباهجها ....بفرحها....بضحكها...بجنونها.....غير أنّي أرى خطوطاً حمراء
تسري بين السّطور , ترمي بنفسها بكل عبث على تلك اللوحة , فتضفي على نفسي
شيئاً من كدرها .....أرى اللون الأحمر يصرخ في وجهي ويأبى إلا أن ينتزع
اللوحة!!
يبكي الطفل وتسح عيناه وابلاً .....علّها تمحو ذلك اللون البغيض!!
يفاجأ الصغير أنّ المطر ينزل وبدلاً من أن يمحوها , إذا به يسقيها لتنمو أشجار حمراء
كهيئة شجر الطلح!!
تكبر وتكبر.....تدفع بكل ما بجوارها....تطرده من اللوحة......تمحوه!!!
ولا شيء هنالك.....سوى شجر الطّلح.....يقطر.....
لا أعلم إن كانت شجرة الطلح .....ماتزال هنالك....حيث عهدتها!!
لكنّي على يقين......أنّه ملأ لوحتي......واغتالها!!
وأنّ شجر الطلح.....مازال يملأ أركان وطني المكلوم!!!

رياض
26-رمضان-1424 هـ
20-نوفمبر-2003م
ديربورن-متشجن